فقد اتفق العلماءُ على أنَّ الحديثَ إذا بلغَ رتبةَ الصحة أو الحُسْن كان صالحاً للعمل والاحتجاج به في الأحكام الشرعيَّة.
أما الحديث الضعيف: فذهب جمهورُهم ـ بل جماهيرُهم ـ إلى العمل به في الفضائل والمستحبَّات، بشروطِه المسوِّغةِ لذلك. وهذا معلومٌ شائع.
لكنْ ذهب بعضُ الأئمةِ إلى العمل بالحديثِ الضعيف في الأحكامِ الشرعية: الحلالِ والحرامِ، حتى إنهم قدَّموه على القياس الذي هو أحدُ المصادر التشريعية التي اتفق على الاعتماد عليها جماهيرُ علماءِ الإسلام،
بل كلُّهم إلا من شذَّ ممن لا يُعتدُّ بخلافه في هذه المواطن.
والعملُ بالضعيف في هذا المجال: هو مذهب الأئمة الثلاثة من المجتهدين: أبي حنيفة ومالك وأحمد( )، وهو مذهب جماعةٍ من أئمة المحدثين أيضاً، كأبي داود والنسائي وأبي حاتم( ). لكن بشرطين: أن لا يَشتدَّ ضعفُه، وأن لا يُوجَد في المسألة غيرُه.
وهذا مذهبُ ابن حزم أيضاً، فإنه قال في "المحلَّى"( ): "وهذا الأثرُ ـ في دعاء القنوت ـ وإنْ لم يكنْ مما يُحتجُّ بمثله، فلم نجدْ فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرَه، وقد قال أحمد بن حنبل رحمه الله: ضعيفُ الحديث أحبُّ إلينا من الرأي. قال عليٌّ ـ هو ابن حزم ـ: وبهذا نقول".
وقد قال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل: سألتُ أبي عن الرجل يكونُ ببلدٍ لا يجدُ فيها إلا صاحبَ حديثٍ لا يَعرفُ صحيحَه من سقيمه، وأصحابَ رأي، فتنزلُ به النازلةُ، مَن يسألُ؟ فقال أبي: "يسأل صاحبَ الحديث ولا يسألُ صاحب الرأي. ضعيفُ الحديث أقوى من الرأي"( ).
بل إن الإمامَ الشافعي نفسَه يعمل بالمرسل إذا لم يُوجد في المسألة غيره، في حين أنه يرى أن الحديث المرسل ضعيف. نقل ذلك عن الشافعي: السخاويُّ في "فتح المغيث"( ) بواسطة الماوردي من أئمة الشافعية.
قال الامام العلامة السيد الشريف عبد الله الصديق الغُمَاري رحمه الله في "الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين" لمحمد المُخَيْمِر( ): "وقولهم: الحديث الضعيف لا يُعمَل به في الأحكام: ليس على إطلاقه كما يَفهمه غالب الناس أو كلُّهم..، وفي مكتبتنا نسخة خطية من كتاب يسمى "المعيار" رتَّبه مؤلفه ـ وهو من حفاظ المئة الثامنة ـ على الأبواب الفقهية، وذكر في كلِّ باب منه الأحاديثَ الضعيفة التي أخذ بها الأئمة الأربعة على الاجتماع والانفراد، مع بيان ضعفها، وذِكْر عللها، وهو كتاب نفيس يدلُّ على سعة حفظ مؤلفه وتبحُّره في الفقه والحديث والخلاف. ولا أُبعد أن يكون هو ابنَ الملقِّن"( ).
وقال البيهقي رحمه الله في "سننه الكبرى"( ) في بحث الخطّ أمام المصلي بدل السُّترة، بعد أن ذكر الاختلاف في اسم أحد رواته: "واحتج الشافعي رحمه الله بهذا الحديث في القديم، ثم توقَّف فيه في الجديد، فقال في كتاب البُويطي: ولا يَخُطُّ المصلِّي بين يديه خطاً إلا أن يكون في ذلك حديث ثابت فليتَّبعْ. وكأنه عَثَر على ما نقلناه من الاختلاف في إسناده. ولا بأس به في مثل هذا الحكم إن شاء الله تعالى". وهذا الكلامُ من البيهقي عمدة ابن الصلاح في جعْله الحديثَ المشارَ إليه هنا مثالاً للحديث المضطرب في "مقدمته" في علوم الحديث، النوع التاسع عشر. وقال الإمام النووي في "المجموع"( ): "والترجيح بالمرسل جائز" مع أنه يَرَى ضعفَ الحديث المرسل، كما هو معروف.
وللعمل بالحديث الضعيف مجالٌ آخر، هو: إذا عَرَض حديثٌ يَحتمِلُ لفظُه معنَيَيْن دون ترجيح بينهما، ووردَ حديثٌ ضعيف يرجِّح أحدَهما، فحينئذ نأخذ بالمعنى الذي يُرجِّحه هذا الحديث ولو كان ضعيفاً، كما نصَّ على ذلك عدد من الأئمة السابقين واللاحقين.
قال البيهقي في مقدمة كتابه "دلائل النبوة"( ): "أردتُ ـ والمشيئة لله تعالى ـ أن أجمع بعض ما بلَغنا من معجزاتِ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ودلائلِ نبوته.. على نحو ما شرطتُه في مصنفاتي من الاكتفاء بالصحيح من السقيم، والاجتزاء بالمعروف من الغريب، إلا فيما لا يتَّضحُ المرادُ من الصحيحِ أو المعروفِ دونه، فأُورده، والاعتمادُ على جملة ما تقدَّمه من الصحيح أو المعروف عند أهل المغازي والتواريخ".
وقال الإمام ابن جُزَيّ الكلبيُّ المالكيُّ رحمه الله في مقدمة تفسيره "التسهيل" وهو يذكر الوجوهَ الاثْنَيْ عَشَرَ للترجيح بين أقوال المفسرين المختلِفة: "فإذا ورد عنه عليه السلام تفسيرُ شيء من القرآن عوَّلْنا عليه، ولاسيما إنْ وَرَدَ في الحديث الصحيح". فقوله "ولا سيما": يفيد هذا الاستدراكُ بمضمونه أن الحديث الضعيف يصحّ الترجيح به بين قولين ـ فأكثر ـ متعارضين في تفسير آية كريمة.
في "تحفة المودود"( ) لقول الله تعالى أولَ سورة النساء { } للخلاف في معنى العَوْل هنا، هل هو كثرة العيال، كقول الشافعي رحمه الله؟ أو هو الحَيْفُ والجَوْر، كقول جمهور المفسِّرين من السلف والخلف؟. ورجَّح قولَ الجمهور بأمور، منها: "أن هذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان من الغرائب، فإنه يصلح للترجيح" والمرويُّ هو حديث السيدة عائشة ـ الذي ذكره هناك قبل أسطر ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أن لا تَجُورا" والحديث رواه ابن حبان مرفوعاً( )، مع أن أبا حاتم الرازي قال: "هذا حديث خطأ، والصحيح عن عائشة موقوف"، فهو قول من المروي عن جمهور السلف، ومع ذلك ترى ابن القيم يقول: إنه يصلح للترجيح.
وقال مولانا العلامة المحقق الشيخ محمد يوسف البَنُّوري رحمه الله تعالى في كتابه النفيس "معارف السنن"( ) وهو يذكر الأجوبة عما ورد في بوله صلى الله عليه وسلم قائماً لعلَّة كانت بباطن ركبته ـ كما في رواية البيهقي ـ: "وسندُه ـ وإن كان ضعيفاً ـ يكفي لبيان النكتة والوجه".
وبهذا يتبيَّن أن للحديث الضعيف قيمةً واعتباراً في نظر أئمتنا السالفين، كما رأينا، على خلافِ ما يُشيعه بعضُ الناس اليومَ إذْ أهدروه مطلقاً وألحقوه بالحديث الموضوع ونَظَموهما في (سلسلة) واحدة!. هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
ــــــــــــــ
(1) "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للعلامة علي القاري رحمه الله 1: 19.
وقال ابن الهمام من الحنفية في "فتح القدير" 1: 417: "الاستحباب يثبت بالضعيف غير الموضوع". بل انظر هذا عند متقدمي أصوليي الحنفية كالسرخسي في "أصوله" 2: 113.
وقال النووي من الشافعية في "الأذكار" ص 7 ـ 8: "قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم: يجوز العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعاً، وأما الأحكام كالحلال والحرام والبيع والنكاح والطلاق وغير ذلك فلا يعمل فيها إلا بالحديث الصحيح أو الحسن، إلا أن يكون في احتياط في شيء من ذلك، كما إذا ورد حديثٌ ضعيفٌ بكراهة بعض البيوع أو الأنكحة فإن المستحبَّ أن يُتَنزه عنه ولكن لا يجب".
وقال في "نشر البنود على مراقي السعود" 2: 63 عمدة متأخري المالكية في الأصول: "فائدة: عُلم من احتجاج مالك ومَن وافقه بالمرسَل أن كلاً من المنقطع والمعضَل حجةٌ عندهم لصدق المرسَل بالمعنى الأصولي على كلّ منهما". واختلف النقل عن الإمام أحمد، وختم ابن النجار الحنبلي المسألة في "شرح الكوكب المنير" 2: 573 بقول الإمام: "طريقي: لستُ أخالف ما ضَعُف من الحديث إذا لم يكن في الباب ما يدفعه". وهو المشهور عنه، وأمامك نقل ابن حزم عنه، وانظر لِزاماً "إعلام الموقِّعين" 1: 31.
(2) "فتح المغيث" للسخاوي 1: 80، 267، وغيره من كتب علوم الحديث، و"حاشية السندي على سنن النسائي" 1: 6، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم 8: 347 (1590) لكن نَقَل كلامه النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" 2: 86، ونسبه لابن أبي حاتم، مع أن السياق كله لأبيه أبي حاتم.
(3) 4: 148.
(4) من "المحلَّى" لابن حزم 1: 68، وذكر السخاوي في "فتح المغيث" 1: 80 نحوه وأن إسناده صحيح. وانظر لِزاماً "إعلام الموقِّعين" 1: 31. والشقُّ الأول من هذا الجواب ينبغي أن يفهم ويُفسَّر على ضوء قول الإمام أحمد نفسه الآتي نقله ص 101 عن "إعلام الموقعين": "إذا كان عند الرجل الكتب المصنفة...".
(5) 1: 80 ، 142، 268.
(6) صفحة 193.
(7) قلت: كتاب "المعيار" هو لتاج الدين أبي الحسن علي بن أبي محمد عبد الله ابن الحسن بن أبي بكر الأَرْدُبيلي التبريزي (677 ـ 746) رحمه الله تعالى، ترجمه السبكي في "طبقاته" 10: 137، وابن حجر في "الدرر الكامنة" 3: 72. وكتابه هذا في مجلدين، عندي صورة عن المجلد الأول منه، مكتوب عليه بخط الحافظ ابن حجر: "كتاب المعيار، للتاج التبريزي، فيه القسم الأول، وهو مشتمل على أبواب الأحكام كلها، وفي الذي يليه القسم الثاني، وهو مشتمل على الفضائل ونحوها"، وهذا مستفاد من كلام مؤلفه في المقدمة. وقد قال المؤلف في مقدمته أيضاً: "جمعت في هذا الكتاب متون بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة مما يتداول بين الناس في استدلالهم على الأحكام، واستشهادهم بها في الأصول، وبنوا عليها الفروع". وهذا صريح في أن الأحاديث التي سيذكرها المؤلف في كتابه هي مما استدل بها أصحاب أئمة المذاهب الأربعة، لا الأئمة أنفسهم: أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد، بل أتباعهم من الفقهاء الذين دوَّنوا فقه هؤلاء الأئمة، وحاولوا الاستدلال بما عرفوه من الأحاديث، للأحكام التي قالها أئمة المذاهب، كما سيأتي تقريره وبيانه بالأمثلة ص209 ـ 210 إن شاء الله تعالى. فقول شيخنا الغُماري رحمه الله "ذكر في كل باب منه الأحاديثَ الضعيفة التي أخذ بها الأئمة على الاجتماع والانفراد..": موهم، والأولى أن يقال: ذكر الأحاديث التي استدل بها أتباع الأئمة.
(8) 2: 271.
(9) 1: 100.
(10) "الدلائل" 1: 69.
(11) صفحة 29 ـ 30.
(12) "الإحسان" 9: 338 (4029).
(13) 1: 105.
منقول
العمل بالحديث الضعيف
Langganan:
Posting Komentar (Atom)
0 komentar:
Posting Komentar