قيمة الرؤيا في الإسلام

ما قيمة الرؤيا في الإسلام ؟
الشريعة الإسلامية منهج ينظم جميع شئون الحياة المدركة في عالم الحس، فترى حكم الشرع يتطرق إلى جميع مجالات الحياة من الصناعة، والتجارة، والطب، والحياة الاجتماعية، ولم يقتصر على العبادات أو العقائد كما يظن البعض.
بل إن الشريعة الإسلامية اهتمت ببعد آخر في حياة الإنسان، وهو النوم وما يحدث قبله من أمور ندب إليها الشرع كالوضوء قبله، وذكر الله، والنوم على الشق الأيمن، كما اهتمت بما يحدث في النوم من مشاهدات، وخيالات، ومبشرات، ومحزنات، وهو ما يسمى بالرؤيا التي يراها النائم. فالشريعة الإسلامية لم تترك شيئًا ولو بسيطًا، ولو يراه بعضهم غير مهم إلا وفصلت فيه القول تفصيلاً ، قال تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }([1]).
ولقد اهتم العلماء ببيان معنى النوم الذي هو الحالة التي يرى فيها الإنسان رؤياه، فقال ابن أمير الحاج : «والنوم وهو فترة تعرض مع العقل توجب العجز عن إدراك المحسوسات، والأفعال الاختيارية، واستعمال العقل»([2]) وهو المراد بقوله : «عجز عن استعمال القدرة» أي عن الإدراكات، أي : الإحساسات الظاهرة؛ إذ الحواس تسكن في النوم عن الحركات الإرادية، أي : الصادرة عن قصد واختيار، بخلاف الحركات الطبيعية، كالتنفس ونحوه. هذا فيما يختص بالنوم، أما ما يختص بالرؤيا فيتضح فيما يلي :




الرؤيا في اللغة :
الرؤية بالهاء : خاصة بما يدرك بحاسة البصر ،والرؤيا (بالألف) تستعمل فيما يدركه النائم غالبًا، وتجمع على (رؤى) بضم الراء والتنوين، وقد تستعمل قليلاً فيما يدرك بحاسة البصر.
الرؤيا في الشرع :
قال المازري : «إن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، وهو سبحانه يفعل ما يشاء، لا يمنعه نوم ولا يقظة، فإذا خلق هذه الاعتقادات، فكأنه جعلها علمًا على أمور أخر يخلقها في ثاني الحال، أو كان قد خلقها، فإذا خلق في قلب النائم الطيران، وليس بطائر، فأكثر ما فيه أنه اعتقد أمرًا على خلاف ما هو، فيكون ذلك الاعتقاد علمًا على غيره، والجميع من خلق الله».
الرؤيا عند الصوفية :
ذكر بعض أكابر الصوفية : «إن الرؤيا من أحكام حضرة المثال المقيد المسمى بالخيال، وهو قد يتأثر من العقول السماوية، والنفوس الناطقة المدركة للمعاني الكلية والجزئية، فيظهر فيه صور مناسبة لتلك المعاني، وقد يتأثر من القوى الوهمية المدركة للمعاني الجزئية فقط، فيظهر فيه صور تناسبها، وهذا قد يكون بسبب سوء مزاج الدماغ، وقد يكون بسبب توجه النفس بالقوة الوهمية إلى إيجاد صورة من الصور، كمن يتخيل صورة محبوبه الغائب عنه تخيلاً قويًّا، فتظهر صورته في خياله، فيشاهده، وهي أول مبادئ الوحي الإلهي».
وقال الإمام محيي الدين بن العربي : « اعلم أن مبدأ الوحي الرؤيا الصادقة، وما هي بأضغاث أحلام، وهي لا تكون إلا في حال النوم، قالت عائشة رضي الله عنها : (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)([3]). وإنما بدئ الوحي بالرؤيا دون الحس؛ لأن المعاني المعقولة أقرب إلى الخيال منها إلى الحس؛ لأن الحس طرف أدنى، والمعنى طرف أعلى، وألطف، والخيال بينهما، والوحي معنى، فكان بدء الوحي إنزال المعاني المجردة العقلية في القوالب الحسية المقيدة في حضرة الخيال في نوم كان أو يقظة، وهو من مدركات الحس في حضرة المحسوس، فإذا أراد المعنى أن ينزل إلى الحس فلابد أن يعبر على حضرة الخيال قبل وصوله إلى الحس، والخيال من حقيقته أن يصور كل ما حصل عند صورة المحسوس.
فإن كان ورود ذلك الوحي الإلهي في حال النوم سمي رؤيا، وإن كان في حال اليقظة سمي تخيلاً ،أي : خيل إليه؛ فلهذا بدئ الوحي بالخيال، ثم بعد ذلك انتقل الخيال إلى الملك من خارج، فكان يتمثل له الملك رجلاً، أو شخصًا من الأشخاص المدركة بالحس، فقد ينفرد هذا الشخص المراد بذلك الوحي بإدراك هذا الملك، وقد يدركه الحاضرون معه، فيلقي على سمعه حديث ربه، وهو الوحي، وتارة ينزل على قلبه صلى الله عليه وسلم فتأخذه البرحاء (أي شدة الكرب من ثقل الوحي) وهو المعبر عنه بالحال، فإن الطبع لا يناسبه؛ فلذلك يشتد عليه، وينحرف له مزاج الشخص إلى أن يؤدي ما أوحي به إليه ثم يسرى عنه فيخبر بما قيل له ».
فالرؤيا لا تختص بالأنبياء، بل هي لجميع المسلمين، وتتأكد مصداقيتها بتقارب الزمان كما ببشر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؛حيث قال : «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا، ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، والرؤيا ثلاث : فالرؤيا الصالحة بشرى من الله تعالى، ورؤيا من تحزين الشيطان، ورؤيا مما يحدث الرجل به نفسه، وإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم وليصل ولا يحدث به الناس»([4]).
وفيما سبق بيان لأهمية الرؤيا وحقيقتها وعلاقتها بالشريعة الإسلامية، والله تعالى أعلى وأعلم.

([1]) الأنعام : 38.
([2]) التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج، ج2 ص 177.
([3]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج1 ص 4، ومسلم في صحيحه، ج1 ص 140.
([4]) أخرجه مسلم في صحيحه، ج4 ص 1773.
منقول من موقع دار الإفتاء المصرية
Selengkapnya..

مسح الوجه باليدين بعد الدعاء

مسح الوجه باليدين بعد الدعاء
بعض الناس ينكر ما اعتاده المسلمون من كونهم يمسحون وجوههم بأيديهم بعد الفراغ من الدعاء، فهل يشرع مسح الوجه باليدين بعد الدعاء؟ وهل يختلف الحال في الدعاء داخل الصلاة عن الدعاء خارجها؟

إن الدعاء مِن أعظم ما يزِيد الإيمان، ويُقوِّي حلاوته في القلب، وهو مِن أفضل العبادات؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة"، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} [غافر:60] ([1]).
وقد أمر الله تعالى بالدعاء وحثَّ عليه؛ فقال تعالى: {وَاسْأَلُوا ٱللهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء:32]، وقال: {فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ} [غافر:14]، وقال: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} إلى قوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف:55-56]، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم الدعاء والسؤال لله عز وجل، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيهِ" ([2]).
والله عز وجل لا يَرُدّ عبده إذا رفع العبد يديه بِذُلٍّ وإلحاح وتضرع دون أن يقضي له حاجته، ولقد بارك الله لرجل في حاجة أكثر الدعاء فيها، أعطيها أو منعها؛ يقول النبي عليه أفضل الصلاة والسلام: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلهَا" ([3]).




وقد نص الأئمة والفقهاء على استحباب مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء؛ قيل: وكأن المناسبة أنه تعالى لما كان لا يردهما صِفْرًا فكأن الرحمة أصابتهما فناسب إفاضة ذلك على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء وأحقها بالتكريم ([4]).
جاء في حاشية الشرنبلالي على درر الحكام من كتب الحنفية في باب "صفة الصلاة" في ذكر الأدعية والأوراد التي وردت السنة بها بعد الصلاة لكل مصلٍّ، ويستحب للمصلي الإتيان بها: "ثم يختم بقوله تعالى {سُبْحَانَ رَبِّكَ} الآية؛ لقول عليٍّ رضي الله عنه: "مَن أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام مِن مجلسه {سُبْحَانَ رَبِّكَ} الآية"، ويمسح يديه ووجهه في آخره؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِذَا دَعَوتَ اللهَ فَادْعُ بِبَاطِنِ كَفَّيْكَ وَلَا تَدْعُ بِظُهُورِهِمَا فَإِذَا فَرَغْتَ فَامْسَحْ بِهِمَا وَجْهَكَ} رواه ابن ماجه كما في البرهان" ([5]).
وقال النفراوي في الفواكه الدواني من كتب المالكية: "ويُسْتَحَب أن يَمْسَحَ وجهه بيديه عقبه -أي: الدعاء- كما كان يفعله عليه الصلاة والسلام" ([6]).
وقد ذكر الإمام النووي من الشافعية من جملة آداب الدعاء مسح الوجه بعد الدعاء في باب الأذكار المستحبة في كتابه المجموع فقال: "ومن آداب الدعاء كونه في الأوقات والأماكن والأحوال الشريفة واستقبال القبلة ورفع يديه ومسح وجهه بعد فراغه وخفض الصوت بين الجهر والمخافتة" ([7]).
وجَزَمَ الإمام النووي في التحقيق أنه مندوب كما نقله عنه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، والشيخ الخطيب الشربيني ([8]).
وقال العلامة البهوتي من الحنابلة: "(ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدَيهِ هُنَا) أي: عقب القنوت (وَخَارَجَ الصَّلَاةِ) إِذَا دَعَا" ([9]).
والدليل على ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسح وجهه بيديه بعد الدعاء؛ فعن عمر رضي الله تعالى عنه قال: {كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَدَّ يَدَيهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَرُدَهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ} ([10]).
قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: "أخرجه الترمذي، له شواهد منها حديث ابن عباس عند أبي داود, وغيره, ومجموعها يقضي بأنه حديث حسن" ([11]).
قال الصنعاني في سبل السلام: "فيه دليل على مشروعية مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَسْتُرُوا الجُدُرَ، مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيرِ إِذْنِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ، سَلُوا اللهَ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا، فَإِذَا فَرَغْتُمْ فَامْسَحُوا بِهَا وُجُوهَكُمْ".
قال أبو داود: "رُوِي هذا الحديث من غير وجه عن محمَّد بن كعب كلها واهية، وهذا الطريق أمثلها، وهو ضعيف أيضًا" ([12]).
ونَقَلَ السيوطيُّ عن شيخ الإسلام أبي الفضل ابن حجر في أماليه قوله في الحديث: هذا حديث حسن ([13]).
وعن يزيد بن سعيد بن ثمامة أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَعَا فَرَفَعَ يَدَيهِ مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيهِ ([14]).
ومما روي عن الصحابة رضي الله عنهم في مسح الوجه باليدين بعد رفعهما للدعاء ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد في باب "رفع الأيدي في الدعاء" من فعل ابن عمر وابن الزبير في مسح الوجه باليدين بعد الدعاء فقال: " حدَّثنا إبرَاهيمُ بن المنذِر قال حدَّثنا محمَّدُ بن فُلَيح قال أخبرني أبِى عن أبى نُعَيم وهو وَهْب قال : "رَأَيتُ ابنَ عُمَرَ وابنَ الزُّبَيرِ يَدْعُوانِ يُدِيرَانِ بِالرَّاحَتَينِ عَلَى الوَجْهِ" ([15]).
ومحمَّد بن فليح وأبوه فليح بن سليمان قد أخرج لهما البخاري في صحيحه واحتج بهما.
وقد نقل السيوطي في "فض الوعاء" عن الحسن البصري فعله لمسح الوجه باليدين بعد الدعاء: "قال الفريابي: حدثنا إسحق بن راهويه أخبرنا المعتمر بن سليمان قال: رأيت أبا كعب -صاحب الحرير -يدعو رافعا يديه، فإذا فرغ مسح بهما وجهه. فقلت له: مَن رأيتَيفعل هذا؟ قال: الحسن بن أبي الحسن. إسناده حسن" ([16]).
أما ما نقل عن الإمام العز بن عبد السلام بأنه لا يفعل المسح للوجه بعد الدعاء إلا الجاهل، فقد أجاب الزركشي في كتابه " الأزهية في الأدعية " عن ذلك فقال: "وأما قول العز في فتاويه الموصلية: مسح الوجه باليد بدعة في الدعاء لا يفعله إلا جاهل, فمحمول على أنه لم يطلع على هذه الأحاديث وهي وإن كانت أسانيدها لينة لكنها تقوَّى باجتماع طرقها" ([17]).
أما مسح الوجه باليدين بعد الدعاء بعد الفراغ من القنوت في الصلاة فهو وجه عند الشافعية قال به القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو محمَّد الجويني، وابن الصبَّاغ، والمُتولِّي، والغزالي، والعمراني صاحب البيان ([18])، وهو المعتمد من مذهب الإمام أحمد كما سبق نقله عن العلامة البهوتي.
وعليه فما يصدر من بعض المتسرعين في الإنكار على من يمسح وجهه بعد الدعاء من الناس لا وجه له؛ ومن المقرر شرعًا أنه إنما يُنكر المتفق عليه ولا يُنكر المختلف فيه، ومَن أبى ذلك تقليدًا لمن أنكر ذلك فلا حرج عليه بشرط عدم الإنكار على مَن فعلها؛ لأنه لا إنكار في مسائل الخلاف. والله أعلم.






([1]) أخرجه أحمد في مسنده (4/267)، أبو داود في كتاب «سجود القرآن» باب «الدعاء» حديث (1479)، والترمذي في كتاب «تفسير القرآن» باب «سورة البقرة» حديث (2969) وقال: "حسن صحيح"، وابن ماجه في كتاب «الدعاء» باب «فضل الدعاء» حديث (3828)، وابن حبان في كتاب «الرقائق» باب «الأدعية» حديث (890)، والحاكم (2/142) حديث (1802) وصححه، ووافقه الذهبي.
([2]) أخرجه أحمد في مسنده (2/442) حديث (9699)، والبخاري في الأدب المفرد حديث (658)، والترمذي في كتاب «الدعوات» باب «فضل الدعاء» حديث (3373) واللفظ له، والحاكم (1/667) حديث (1807).
([3]) أخرجه أحمد في مسنده (3/18)، والحاكم (1/493) وصححه ووافقه الذهبى.
([4]) سبل السلام (2/709).
([5]) (180/1)
([6]) (335/2)
([7]) (487/4)
([8]) انظر: أسنى المطالب (1/160)، ومغني المحتاج (1/370).
([9]) شرح منتهى الإرادات (1/241)، وانظر: الإنصاف (2/173)، وكشاف القناع (1/420).
([10]) أخرجه الترمذي في كتاب «الدعوات» باب «رفع الأيدي في الدعاء» حديث (3386)، وأخرجه الحاكم في مستدركه (1/719) في كتاب «الدعاء» حديث (1967).
([11]) انظر: سبل السلام شرح بلوغ المرام (2/709).
([12]) أخرجه أبو داود في «سجود القرآن» في باب «الدعاء» حديث (1485) واللفظ له، وأخرجه أيضا ابن ماجه في كتاب «الدعاء» في باب «رفع اليدين في الدعاء» حديث (3866)، والحاكم في مستدركه في كتاب «الدعاء» (1/719) حديث (1968)، والبيهقي في «السنن الكبرى» في كتاب «الصلاة» في باب «رفع اليدين في القنوت» حديث (3276).
([13]) فض الوعاء ص (74).
([14]) أخرجه أحمد في مسنده (4/221) حديث (17972), وأبو داود في كتاب «سجود القرآن» في باب «الدعاء» حديث (1492).
([15]) ص (214).
([16]) ص (101).
([17]) النقل بواسطة " جزء في مسح الوجه بعد الدعاء " للشيخ بكر أبو زيد ص (25).
([18]) انظر: المجموع (3/480).
Selengkapnya..

حكم إسبال الثوب

ما حكم إسبال الثوب ؟
الإسبال من السَّبَل : بالتحريك؛ السُنبل، وقد أسْبَلَ الزرع : خرج سُنبله. وأسْبَلَ المطر، والدمع : هطل. وأسبل إزاره: أرخاه. والسَّبَلُ : داء في العين شبه غشاوة، كأنها نسج العنكبوت بعروق حمر. و السَّبِيلُ : الطريق، يُذكر ويُؤنث([1]).
والمراد هنا هو الإسبال الخاص بالثوب، وهو أن يطيل الإنسان ثوبه ويجره على الأرض، أو يسبله من فوق رأسه دون أن يلبسه، وهذا مكروه في الصلاة لمشابهته لليهود، ولعدم أمن ستر العورة.
وقد كان إسبال الإزار علامة على الخيلاء والكبر، وهي من عظائم الذنوب وكبائر الخطايا، وهي من ذنوب القلوب التي تمرض القلب وتفسد الحياة فيه، حتى قال الصالحون : «رب معصية أورثت ذلاًّ وانكسارًا، خير من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا ».
.
وارتبط الإسبال بالخيلاء شرعًا ؛لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : «من جر ثوبه خيلاء ؛ لم ينظر الله إليه يوم القيامة» .فقال أبو بكر : إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنك لست تصنع ذلك خيلاء»([2]).
فإطالة الثوب وجره على الأرض في ذاتها ليست حرامًا؛ وإنما حرمت؛ لما تدل عليه من الكبر، ودلالة جر الثوب على الكبر كانت موجودة في عادة القوم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك اتفق العلماء على حرمة الكبر والخيلاء سواء ارتبط بالثوب أو لم يرتبط به، واختلفوا في حكم إسبال الثوب فإذا كان بكبر وخيلاء فيحرم من أجل الخيلاء، وإن لم يكن كذلك فلا يحرم.
وإنما قالوا : إنه يكره؛ لأنه يشبه من فعله خيلاء، وكان هذا لأن المتكبرين والمتجبرين في هذا الزمان يفعلون ذلك، فكان التشبه بهم بغير قصد الخيلاء يكره، أما مع قصد الخيلاء فيحرم كما قدمنا.
وهذا ما ذهب إليه العلماء، ونص عليه الأئمة، يقول الشيخ البهوتي : « (فإن أسبل ثوبه لحاجة كستر ساق قبيح من غير خيلاء أبيح) قال أحمد في رواية حنبل : جر الإزار، وإسبال الرداء في الصلاة، إذا لم يرد الخيلاء فلا بأس»([3]).
قال الشوكاني : «وظاهر التقييد بقوله : خيلاء، يدل بمفهومه أن جر الثوب لغير الخيلاء لا يكون داخلاً في هذا الوعيد. قال ابن عبد البر : مفهومه أن الجار لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد، إلا أنه مذموم. قال النووي : إنه مكروه وهذا نص الشافعي. قال البويطي في مختصره عن الشافعي : لا يجوز السدل في الصلاة ولا في غيرها للخيلاء، ولغيرها خفيف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر. انتهى»([4]).
فإسبال الثوب لغير الخيلاء، لا شيء فيه ولا بأس به كما قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، والحرمة هي للخيلاء والكبر حتى وإن لم تقترن بالإسبال، فهذا هو الأوجه وقد تغيرت العادات، وليس من عادة المتكبرين في زماننا إسبال الثوب، فإسباله في هذا الزمن لا يمكن أن يكون فيه مشابهة للمتكبرين، والله تعالى أعلى وأعلم.

([1]) انظر : لسان العرب، ج11 ص319 ،321 ،322 .
([2]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج3 ص1340،واللفظ له ،ومسلم في صحيحه، ج3 ص1650،مختصرًا.
([3]) كشاف القناع، للبهوتي، ج1 ص 276.
([4]) نيل الأوطار، للشوكاني، ج2 ص 112



Selengkapnya..

التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بـها

بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد..، فالكعبة مفرد الكعاب، ومعناها في لغة العرب أحد معنيين أو كلاهما:
الـمعنى الأول: أن الكعبة سـميت كعبة؛ لأنـها مربعة، فكل بيت مربع فهو عند العرب كعبة، بخلاف أكثر بيوت العرب فكانت مدورة(1). قال ابن العربي: «سـميت كعبة لتربعها، قاله مجاهد وعكرمة»(2).
الـمعنى الثاني: أن الكعبة سـميت بذلك لبروزها وارتفاعها حِسًّا ومعنى، فكل شيء علا وارتفع فهو كعب(3). والحق أن كلا الـمعنيين في الكعبة ظاهر وواضح، فهي مربعة في الشكل ومرتفعة عن الأرض، وهي مشرفة ومرتفعة في الـمنزلة.
والـمراد بالكعبة شرعًا: بيت الله، والقبلة، والـمسجد الحرام، وهي محلٌّ للإجلال والاحترام؛ لأن الله عز وجل جعلها بيتًا له، تشريفًا وتكريـمًا لـها.
وهي أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}[آل عمران: 96].
وقد جعل الله ما حول مكة من جميع جهاتـها الأربع حرمًا آمنًا، تكريـمًا لبيته الحرام، وقد جعلها الله عز وجل قِبْلَةً للمسلمين يستقبلونـها في صلاتـهم خمس مرات، ولا يجوز لإنسان أن يستقبل غيرها، بل لو اتخذ قبلة غيرها عالـمًا متعمدًا لا تقبل صلاته، قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وقد جعل الله عز وجل عز وجل الطواف بالكعبة من خصائصها، فلا يطاف بشيء غير الكعبة، قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج: 29].
والـمراد بالتعلُّق بأستار الكعبة: هو التشبث بـها والالتصاق بأركانـها وكسوتـها. والكسوة(4):هي ما يُتَّخذ من الثياب للستر والحلية(5).
وهذا التعلق يكون الـمراد منه هو الإلحاح في طلب الـمغفرة، وسؤال الأمان، كالـمذنب الـمتعلق بثياب من أذنب إليه، الـمتضرع إليه في عفوه عنه الـمظهر له أنه لا ملجأ له منه إلا إليه.
وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق: «قال عبد الباري لأبي الفيض: ما معنى التعلق بأستار الكعبة؟ فقال: مَثلهُ مثل رجل بينه وبين صاحبه جناية، فهو يتعلق به ويستخذي له رجاء أن يهب له جرمه»(6).

حكم التعلق بأستار الكعبة والتشبث بـها:
كان العرب قبل الإسلام إذا أراد أحد منهم أن يُؤَمِّن نفسه دخل الكعبة وتعلَّق بأستارها، ومـما يروى في هذا: لـما كان يوم فتح مكة أَمَّنَ النبي عليه السلام الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: «اقتلوهم وإن وجدتـموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح»(7).
وقد ذكر الفقهاء حكم التشبث بالكعبة، وقالوا بأنه مندوب وهو من آداب الزيارة، قال السرخسي في الـمبسوط: «قال شيخنا الإمام رحمه الله تعالى: يستحب له أن يأتي الباب ويقبل العتبة، ويأتي الْمُلْتَزَمَ فيلتزمه ساعة يبكي، ويتشبث بأستار الكعبة ويلصق جسده بالجدار إن تَمَكَّن، ثم يأتي زمزم فيشرب من مائه، ثم يصب منه على بدنه ثم ينصرف، وهو يـمشي وراءه ووجهه إلى البيت متباكيًا متحسرًا على فوات البيت حتى يخرج من الـمسجد»(8).
وقال صاحب (بدائع الصنائع) في بيان سُنن الحج: «وذكر الطحاوي في مختصره عن أبي حنيفة أنه إذا فرغ من طواف الصدر يأتي الـمقام فيصلي عنده ركعتين، ثم يأتي زمزم فيشرب من مائها، ويصب على وجهه ورأسه ثم يأتي الْمُلْتَزَمَ، وهو ما بين الحجر الأسود والباب فيضع صدره وجبهته عليه، ويتشبث بأستار الكعبة ويدعو ثم يرجع، وذكر في العيون كذلك، إلا أنه قال في آخره : ويستلم الحجر ، ويكبر ثم يرجع»(9).
وقال الزيلعي في تبيين الحقائق: «قال رحمه الله (والتزم الْمُلْتَزَمَ وتشبث بالأستار والتصق بالجدار) والْمُلْتَزَمُ هو: ما بين الباب والحجر الأسود، ويلزق صدره به، والتشبث: التعلق، والـمراد: بالأستار، أستار الكعبة، ويستحب له أن يأتي باب البيت أولًا ويُقبِّل العتبة ويدخل البيت حافيًا، ثم يأتي الْمُلْتَزَمَ فيضع صدره ووجهه عليه، ويتشبث بالأستار ساعة يتضرع إلى الله تعالى بالدعاء بـما أحب من أمور الدارين، ويقول: «اللهم هذا بيتك الذي جعلته مباركًا وهدى للعالـمين، اللهم كما هديتني له فتقبله مني، ولا تجعل هذا آخر العهد من بيتك وارزقني العود إليه حتى ترضى عني برحمتك يا أرحم الراحمين». وينبغي له أن ينصرف، وهو يـمشي وراء وبصره إلى البيت متباكيًا متحسرًا على فراق البيت حتى يخرج من الـمسجد وفي ذلك إجلال البيت وتعظيمه، وهو واجب التعظيم بكل ما يقدر عليه البشر والعادة جارية به في تعظيم الأكابر والـمنكر لذلك مكابر وهذا تـمام الحج»(10).
وقال الإمام الغزالي: «وأما التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالْمُلْتَزَمِ، فلتكن نيتك في الالتزام طلب القرب حبًّا وشوقًا للبيت ولرب البيت، وتبركًا بالـمماسة، ورجاء للتحَصُّن عن النار في كل جزء من بدنك لا في البيت، ولتكن نيتك في التعلق بالستر الإلحاح في طلب الـمغفرة وسؤال الأمان، كالـمذنب الـمتعلق بثياب من أذنب إليه الـمتضرع إليه في عفوه عنه، الـمظهر له أنه لا ملجأ له منه إلا إليه ولا مفزع له إلا كرمه وعفوه وأنه لا يفارق ذيله إلا بالعفو وبذل الأمن في الـمستقبل»(11).
وقال الجصاص: « ... ثم الإحرام والتجرد لله تعالى، والتشبه بالخارجين يوم النشور من قبورهم إلى عرصة القيامة، ثم كثرة ذكر الله تعالى بالتلبية واللجأ إلى الله تعالى وإخلاص النية له عند ذلك البيت والتعلق بأستاره موقنًا بأنه لا ملجأ له غيره، كالغريق الـمتعلق بـما يرجو به النجاة وأنه لا خلاص له بالتمسك به، ثم إظهار التمسك بحبل الله الذي من تـمسك به نجا وما حاد عنه هلك»(12).
وقال أحمد بن قدامة الـمقدسي: «واعلم: أن في كل واحد من أفعال الحج تذكرة للمتذكر، وعبرة للمعتبر... ومن ذلك: إذا رأى البيت الحرام استحضر عظمته في قلبه، وشكر الله تعالى على تبليغه رتبة الوافدين إليه، وليستشعر عظمة الطواف به فإنه صلاة، ويعتقد عند استلام الحجر أنه مبايع لله على طاعته، ويضم إلى ذلك عزيـمته على الوفاء بالبيعة، وليتذكر بالتعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالْمُلْتَزَمِ لجأ الـمذنب إلى سيده وقرب الـمحب، وأنشد بعضهم في ذلك:
ستور بيتك نيل الأمن منك وقد علقتها مستجيرًا أيها الباري
وما أظنك لـما أن علقت بـها خـوفًـا من النـار تنـجينـي من النار
وها أنا جار بيت أنت قلت لنا حجوا إليه وقد أوصيت بالجار»(13).
وعلى هذا فالتعلق بأستار الكعبة أو مس البيت والدعاء، كل ذلك من الأمور الـمندوبة باعتبار ما تحمله من معاني التبرك والإجلال والتعظيم، ولا ينبغي أن يترتب على هذا الحكم التفصيلي فوضى في التعامل مع الكعبة، مـما يعد إساءة واستهانة بذلك البيت الـمقدس، كما أنه يجوز للقائمين على أمر الـمسجد الحرام تنظيم ذلك الأمر، وإن وصل إلى منعه خشية على كسوة الكعبة من التمزيق وحسمًا لتلك الفوضى، ولكن لا يكون منع ذلك بادِّعاء حرمة نفس الفعل أو كونه شركًا. والله تعالى أعلى وأعلم.


الهوامش:
-------------------
(1) لسان العرب، مادة (ك ع ب).
(2) أحكام القرآن لابن العربي 2/206.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 2/206، بتصرف.
(4) بكسر الكاف أو ضمها، وسكون السين.
(5) المصباح المنير للفيومي مادة (ك س ى).
(6) تاريخ دمشق 6/352.
(7) مصنف ابن أبي شيبة 8/52، روح الـمعاني للألوسي 21/106، الدر المنثور للسيوطي 4/351.
(8) الـمبسوط للسرخسي 4/24.
(9) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 2/160.
(10) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 2/37.
وقد ذُكِرت هذه الـمسألة في كتب أخرى، انظر: نصب الراية في تخريج أحاديث الـهداية للزيلعي 3/184، 185. فتح القدير، ابن الـهمام 2/506، 507. الفتاوى الـهندية 1/235. مجمع الأنـهر في شرح ملتقى الأبحر، عبد الرحمن بن محمد شيخي زاده (داماد) 1/283. الـموسوعة الفقهية الكويتية 17/48. فتوى للشيخ جاد الحق علي جاد الحق برقم 198.
(11) إحياء علوم الدين 1/269.
(12) أحكام القرآن للجصاص 4/150.
(13) مختصر منهاج القاصدين ص 51.




الـمصادر والـمراجع:
-------------------
- أحكام القرآن للجصاص، تحقيق: محمد الصادق قمحاوي- بيروت: دار إحياء التراث العربي، سنة 1405هـ.
- أحكام القرآن، ابن العربي، دار الكتب العلمية.
- إحياء علوم الدين، الغزالي- بيروت: دار الـمعرفة.
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني، دار الكتب العلمية.
- تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، تحقيق: محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمروي- بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر، 1415هـ = 1995م.
- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، عثمان بن علي الزيلعي، دار الكتاب الإسلامي.
- الـمبسوط، محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، دار الـمعرفة.
- مختصر منهاج القاصدين، محمد بن عبد الرحمن بن قدامة الـمقدسي، تحقيق: محمد وهبي سليمان، علي عبد الحميد أبو الخير، الطبعة الثالثة 1418هـ = 1998م.
- الـمصباح الـمنير للفيومي، دار الكتب العلمية.
- روح الـمعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع الـمثاني، الـمؤلف: محمود الألوسي أبو الفضل، الناشر: دار إحياء التراث العربي- بيروت.



المصدر: قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية.
Selengkapnya..

هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يذنب

الشبهة:
ورد في القرآن قوله تعالى: {أَلَم نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}[الشرح1 :3]، وقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [الفتح1 :3]، وقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد :19] وقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ}[غافر:55]. ونحن نسأل: هذه الآيات كلها تثبت وقوع الخطيئة من نبي الإسلام [صلى الله عليه وآله وسلم]، فهل يصح الادعاء أنه شفيع أمته، وهو نفسه مذنب؟


الرد عليها :
إن الأنبياء هم أعظم البشر باتفاق، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أعظم الأنبياء، والعظماء أصحاب النفوس العالية، والمقامات العظيمة، ينظرون إلى أمور لا يعتبرها غيرهم من الناس ذنوبًا، لكنهم ينظرون إليها على أنها ذنوب، كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ولهذا فإن استغفار هؤلاء العظماء لا يعتبر طلبًا لمغفرة الخطيئة والصفح عنها؛ لأنه لا توجد خطيئة أصلا!!
ولكنه يعتبر طلبا لرفع الدرجة والارتقاء في المنزلة لبلوغ الكمال!! ومراتب الكمال والشرف لا تتناهى .
وكثرة الاستغفار من سمات العابدين يتحقق به للعبد ترقٍّ في مراتب الكمال والشرف التي لا تتناهى؛ فهو عبادة بذاته يؤديه العبد ولو لم يقترف ذنبًا يستغفر منه، فإن الشعور بالتقصير سمة العابدين مهما بلغوا.
ولذا تراه صلى الله عليه وآله سلم قد قام الليل حتى ورمت قدماه، وفاء بهذا الواجب، واعترافًا بنعمة التوفيق الرباني، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا" (1).
والعقل والتاريخ والتفسير القرآني ينفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أذنب؛ أما العقل: فلأن الأنبياء متصفون بالأمانة في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فهم لا يخونون ولا يخطئون أبدًا، وقد أيدت المعجزات أمانتهم، وحَمّلهم الله رسالته التي لا يحملها إلا من كان أمينًا تام الأمانة، ولهذا فإن الله أمرنا أن نتبعهم من غير تفصيل، وفي هذا نفي لجواز الخطيئة عليهم، لأنه لو جازت عليهم الخطيئة لفصل الله لنا ذلك وأرشدنا إليه ولم يأمرنا باتباعهم مطلقًا هكذا دون قيد أو شرط.
أما التاريخ: فإن كتب التاريخ الصحيحة مجتمعة على أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت نموذجًا للأمانة التامة، فليس فيها خطيئة ولا ذنب، بل إن القرآن الكريم نفسه قد أثنى على النبي صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4]، وأمر باتباعه، ونص على أنه صلى الله عليه وسلم لا يخطئ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] فكيف يدعى أنه أخطأ؟! ويدعى أن القرآن الذي زكاه هو نفسه الذي يقول ذلك؟؟!!
أما عن تفسير الآيات التي يزعم أن فيها وصفًا للنبي صلى الله عليه وسلم بالخطيئة ، فإن التفسير الصحيح الذي نصت عليه كتب التفسير يوضح أن [الوزر] في قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} يعني: الحرج، والحرج هو الضيق والصعوبة التي سببها عدم استجابة البعض لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، أو الشدائد والمصاعب التي تعترض طريق الرسالة.
ومعنى [وضعنا] أى: حططنا، فالآية تمثل حالة إزالة الشدائد والكروب بحال من يحط ثقلا عن حامله [أي: يزيله عنه] ليريحه من عناء الثقل(2)

ومن التفسيرات الصحيحة للآية أيضًا:
أن قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} كناية عن عصمته صلى الله عليه وسلم من الذنوب وتطهيره من الأدناس، وعبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في نفي الخطيئة والذنب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما يقول القائل: رفعت عنك مشقة الزيارة ، لمن لم يصدر منه زيارة، للمبالغة في انتفاء الزيارة منه (3).

قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية

الهوامش:
---------------------------
(1) صحيح البخاري (16/131).
(2) التحرير والتنوير (16/ 307). بتصرف .
(3) البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 8/ 484. بتصرف .
Selengkapnya..

لماذا تعددت زوجات رسول الله؟

مبنى هذه الشبهة أن السائل قد خلط بين طبائع البيئات المختلفة، فلكل عصر طبيعته التي يتأثر بها من يعيش فيها، وعصر الرسول صلى الله عليه وسلم قد انتشر فيه تعدد الزوجات، واتخاذ الجواري، ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن زواجه رغبة في كثرة النساء كما أشار السائل،، وإنما كان زواجه صلى الله عليه وسلم يرجع إلى أسباب اجتماعية وتشريعية وسياسية يمكن بيانهاعلى النحو التاليأولاً: الأسباب الاجتماعية:
زواجه من السيدة خديجة -رضي الله عنها-، وهذا نضج اجتماعي، بحيث يتزوج الرجلُ المرأةَ العاقلة الرشيدة، وكان -عليه الصلاة والسلام- في سن الخامسة والعشرين وظلت معه وحدها حتى توفيت وهو في سن الخمسين.
تزوج بعدها بالسيدة سودة بنت زمعة وكانت أرملة؛ لحاجة بناته الأربع إلى أم بديلة ترعاهن وتُبَصِّرهن بما تُبَصِّر به كل أم بناتها.
حفصة بنت عمر بن الخطاب تزوجها بعد وفاة زوجها إكرامًا لأبيها سـ3هـ.
السيدة زينب بنت خزيمة استشهد زوجها في غزوة أحد فتزوجها سـ 4هـ.
السيدة أم سلمة هند بنت أمية توفي زوجها ولها أولاد فتزوجها سـ4هـ.
فقد تبين من الزيجات السابق ذكرها أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج بأرامل الشهداء الذين قُتِلُوا في جهاد المسلمين للمشركين لتطييب نفوسهن، ورعاية لأولادهن، فكان هذا تعويضا من الله عز وجل لهن.

ثانيا: الأسباب التشريعية:
زواجه من السيدة عائشة -رضي الله عنها- فلقد كان بوحي، حيث رأى في المنام أنه تزوجها، ورؤيا الأنبياء وحي.
زينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة الذي كان يُدْعَى زيد بن محمد بالتبني، فنزل قول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } [الأحزاب: 5] وبعد خلاف مع زوجها طُلِّقت منه، وأُمِرَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يتزوجها لإقامة الدليل العملي على بطلان التبني، وذلك سنة خمسة للهجرة.

ثالثًا: الأسباب السياسية:
كان لبعض زيجات الرسول -صلى الله عليه وسلم- بُعدًا سياسيًّا من حيث ائتلاف القلوب والحدّ من العداوة وإطلاق الأسرى ...إلخ، ومِن ذلك:
زواجه بالسيدة جويرية بنت الحارث، سيد بني المصطلق، من خزاعة، وقعت في الأسر، تزوجها سنة 6 هـ.
والسيدة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، تنصَّر زوجها وبقيت هي على إسلامها، وكان للزواج منها كبير الأثر في كسر حِدَّة أبي سفيان في العداء للإسلام، حتى هداه الله.
والسيدة صفية بنت حيي بن أخطب كانت من سبي خيبر أعتقها الرسول وتزوجها سـ7هـ.
والسيدة ميمونة بنت الحارث تزوجها سـ 7هـ.
مات من هؤلاء اثنتان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهما: خديجة، وزينب بنت خزيمة، وتوفي الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن تسع.
وأما الجواري فهما مارية القبطية التي ولدت إبراهيم وتوفي صغيرًا، وريحانة بنت زيد القرطية.
إذن التعدد بدأ في سن الثالثة والخمسين من عمره فهل هذا دليل الشهوة؟ ومن يشتهِ هل يتزوج الثيبات وأمهات الأولاد والأرامل؟ كيف وقد عُرِضَ عليه خيرة بنات قريش فأبى؟!
إن التعدد منه صلى الله عليه وسلم كله كان لحكم منها -فضلاً عما سبق- بيان كل ما يقع في بيت النبوة من أحكام عملاً بقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34] ولتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته لهم وللزيادة في تألفهم لذلك. ولتكثر عشيرته من جهة نسائه فيزداد أعوانه على من يحاربه. ولنقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال؛ لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله.

التعدد سنة الأنبياء بنصوص الكتاب المقدس:
ذكر الكتاب المقدس عددًا من الأنبياء وذكر عنهم التعدد؛ منهم:
- نبي الله إبراهيم عليه السلام، ذكر الكتاب المقدس له ثلاث زوجات؛ سارة [سفر التكوين ( 20 : 12 )]، هاجر المصرية [سفر التكوين ( 16 : 3 )]، قطورة [سفر التكوين (25 : 1 )]، وكذلك ذكر أنه كانت له سراري [سفر التكوين ( 25 : 6 )].
- نبي الله يعقوب عليه السلام، كان له أربع نسوة في وقت واحد؛ جاء في سفر التكوين: " ثم قام في تلك الليلة و أخذ امرأتيه و جاريتيه و أولاده الأحد عشر و عبر مخاضة يبوق" ( 32 : 22 ).
- نبي الله داود عليه السلام، ذكر العهد القديم له تسع نسوة:
1- أخينوعم اليزرعيلية.
2- أبيجايل امرأة نابال الكرملي.
3- معكة بنت تلماي ملك جشور.
4- حجيث.
5- أبيطال.
6- عجلة. [صموئيل الثاني ( 3 : 1-6)]
7- ميكال. [سفرصموئيل الثاني (6 : 23 )]
8- بثشبع امرأة أوريا. [سفر صموئيل الثاني ( 11 : 26 )]
9- أبيشج الشونمية. [سفر الملوك الأول ( 1 : 1- 5 )]

- نبي الله سليمان عليه السلام، ذكر العهد القديم أنه كانت له ألف امرأة؛ سبعمائة من الحرائر و ثلاثمائة من السراري.
"و كانت له سبع مئة من النساء السيدات و ثلاث مئة من السراري" [سفر الملوك الأول (11 : 3 )].
فهؤلاء إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان ذكر العهد القديم أنهم قد عددوا الزوجات، فالتعدد سنة الأنبياء ومنهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية



Selengkapnya..

تلقين المحتضر والميت




تلقين المحتضر والميت
س : ما حكم التلقين، ومتى يكون، وهل له دليل، أفتونا مأجورين ؟
الجواب
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد، فيتغير حال الإنسان إذا حان أجله، ويكون في حال صعب يحتاج لمن يطمئنه، ويحتاج لمن يبشره برحمة الله. ومما يحتاجه العبد في هذا الحال التلقين.(1)

والتلقين على قسمين:

الأول: تلقين المحتضر:
يُسَنُّ أن يُلَقَّن المحتضر الشهادتين من غير أمر له بهما، ومن غير إكثار؛ وذلك لتكون آخر كلامه، فيحصل ما وُعِد من البُشْرَى بدخول الجنة؛ وطرد الشياطين الذين يحضرونه؛ لإفساد عقيدته وتبديلها، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: « لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ».(2) قال النووي في شرح الحديث: « معناه مَنْ حضره الموت، والمراد: ذكِّرُوه لا إله إلا الله؛ لتكون آخر كلامه، كما في الحديث: « مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ »(3)، والأمر بهذا التلقين أمر ندب، وأجمع العلماء على هذا التلقين، وكرهوا الإكثار عليه والموالاة؛ لئلا يضجر بضيق حاله، وشِدَّة كربه، فيكره ذلك بقلبه، ويتكلَّم بما لا يليق. قالوا: وإذا قاله مرَّة لا يُكَرَّر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر، فيُعَاد التعريض به؛ ليكون آخر كلامه، ويتضمن الحديث الحضور عند المحتضر؛ لتذكيره؛ وتأنيسه؛ وإغماض عينيه؛ والقيام بحقوقه، وهذا مجمع عليه».(4)
أما إذا مات المسلم ولم يُلقَّن الشهادة، فلا شيء في هذا، ولا يدلُّ هذا على أنه ليس من أهل الخير، فمن كان في حياته مستقيمًا على دين الله وشرعه، ومات على ذلك يُرْجَى له الخير، ويُظَنُّ به ذلك - إن شاء الله تعالى - وخصوصًا إذا كان مشهودًا له بالخير من قِبَل الجميع، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما مرَّت عليه جنازة وأثنى الناس عليها خيرًا قال: «من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة ».(5)

الثاني: تلقين الميت عقب دفنه:
تلقين الميت عقب الدفن استحبَّه جمهور الفقهاء، مستدلين بما رواه الطبراني عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أنه قال: إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا - صلى الله عليه وسلم - أن نصنع بموتانا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا مات أحدٌ من إخوانكم فسوَّيتم التُّرَاب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يستوي قاعدًا، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون. فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا، وبالقرآن إمامًا، فإن منكرًا ونكيرًا يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه فيقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لُقِّن حجته، فقال رجل: يا رسول الله فإن لم يعرف أمَّه، قال عليه الصلاة والسلام: « ينسبه إلى أمه حواء، يا فلان ابن حواء ».(6)
قال النووي: قال جماعات من أصحابنا: يُستحبُّ تلقين الميت عقب دفنه، فيجلس عند رأسه إنسان ويقول: ... ثم ذكر الحديث، ثم قال: فهذا التلقين عندهم مُسْتَحبٌّ، وممن نصَّ على استحبابه القاضي حسين، والمتولي، والشيخ نصر المقدسي، والرافعي، وغيرهم. ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقا، وسُئِل الشيخ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله – عنه، فقال: التلقين هو الذي نختاره ونعمل به، قال: وروينا فيه حديثًا من حديث أبي أمامة ليس إسناده بالقائم، لكن اعتضد بشواهد، وبعمل أهل الشام قديما، هذا كلام أبي عمرو.
قلت: حديث أبي أمامة رواه أبو القاسم الطبراني في معجمه بإسناد ضعيف، ولفظه: ... ثم ذكر الحديث، وقال: قلت فهذا الحديث وإن كان ضعيفًا فيستأنس به. وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب، وقد اعتضد بشواهد من الأحاديث كحديث : « واسألوا له التثبيت » ووصية عمرو بن العاص وهما صحيحان سبق بيانهما قريبًا، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا في زمن من يقتدى به وإلى الآن، وهذا التلقين إنما هو في حق المكلف الميت، أما الصبي فلا يُلَقَّن. والله أعلم.(7)
وقد سُئِل ابن تيمية عن تلقين الميت في قبره بعد الفراغ من دفنه هل صحَّ فيه حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن صحابته؟ وهل إذا لم يكن فيه شيء يجوز فعله ؟ أم لا؟
أجاب: هذا التلقين المذكور قد نُقِل عن طائفة من الصحابة أنهم أمروا به، كأبي أمامة الباهلي، وغيره، وروي فيه حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه مما لا يحكم بصحَّته؛ ولم يكن كثير من الصحابة يفعل ذلك، فلهذا قال الإمام أحمد وغيره من العلماء: إن هذا التلقين لا بأس به، فرخَّصوا فيه، ولم يأمروا به. واستحبَّه طائفة من أصحاب الشافعي، وأحمد، وكرهه طائفة من العلماء من أصحاب مالك، وغيرهم.
والذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقوم على قبر الرجل من أصحابه إذا دفن، ويقول : «سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ»، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «لَقِّنُوا أَمْوَاتَكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» فتلقين المحتضر سُنَّة مأمور بها. وقد ثبت أن المقبور يُسْأل، ويُمْتَحن، وأنه يُؤْمَر بالدعاء له؛ فلهذا قيل: إن التلقين ينفعه، فإن الميت يسمع النداء. كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :«إنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ»، وأنه قال : «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ»، وأنه أمرنا بالسلام على الموتى . فقال : «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ»(8).
وعليه فإن تلقين المحتضر، والميت ثابت ولا شيء فيه، وعليه فيسن ويجوز للمسلم أن يُلَقِّن أخاه المسلم أو أخته المسلمة عند الاحتضار وعقب الدفن، وهذا كله ينفعه إن شاء الله.
والله تعالى أعلى وأعلم.



المصادر والمراجع:
-----------------------------
1 سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني (ابن ماجه)، دار الفكر – بيروت
2 سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الفكر – بيروت
3 سنن النسائي (المجتبى)، أحمد بن شعيب النسائي، مكتبة المطبوعات الإسلامية – دمشق
4 صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير - دمشق
5 صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري، دار إحياء التراث العربي- القاهرة
6 شرح صحيح مسلم، يحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث - القاهرة
7 المعجم الكبير، سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة
8 مجمع الزوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتاب العربي – بيروت
9 المجموع، يحيى بن شرف النووي، المطبعة المنيرية – القاهرة


الهوامش:
----------------------------
(1) يقال: لقَّنَه الكلام: ألقاه إليه ليعيده.
(2) أخرجه مسلم، في صحيحه كتاب الجنائز، حديث رقم (2162)، وأبو داود، في سننه كتاب الجنائز، حديث رقم (3119)، والترمذي، في سننه كتاب الجنائز، حديث رقم (992)، والنسائي، في سننه كتاب الجنائز حديث رقم (1837)، وابن ماجه، في سننه كتاب الجنائز، حديث رقم (1511).
(3) أخرجه أبو داود، في سننه كتاب الجنائز، حديث رقم (3118). وذكره الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. حديث رقم (1247).
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 6/219.
(5) رواه مسلم، في صحيحه كتاب الجنائز، حديث رقم (2243)، والنسائي، كتاب الجنائز، حديث رقم (1944).
(6) المعجم الكبير للطبراني 8/249، مجمع الزوائد للهيثمي 3/45
(7) المجموع شرح المهذب 5/274، 275
(8) الفتاوى الكبرى لابن تيمية 3/24، 25.



المصدر: قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية.
Selengkapnya..