التوسل

التّعريف :
1 - التّوسّل لغة : التّقرّب . يقال : توسّلت إلى اللّه بالعمل : أي تقرّبت إليه ، وتوسّل إلى فلان بكذا : تقرّب إليه بحرمة آصرة تعطفه عليه . والوسيلة هي الّتي يتوصّل بها إلى تحصيل المقصود . قال اللّه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إليه الوَسِيلةَ } ووسل إلى اللّه تعالى توسيلا : عمل عملا تقرّب به إليه كتوسّل .
والواسل : الرّاغب إلى اللّه تعالى . ولا يخرج التّوسّل في الاصطلاح عن معناه في اللّغة ، فيطلق على ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى من فعل الطّاعات وترك المنهيّات ، وعليه حمل المفسّرون قوله تعالى : { وَابْتَغُوا إليه الوَسِيلةَ } .
ويطلق التّوسّل أيضاً على التّقرّب إلى اللّه بطلب الدّعاء من الغير ، وعلى الدّعاء المتقرّب به إلى اللّه تعالى باسم من أسمائه ، أو صفة من صفاته ، أو بخلقه كنبيّ ، أو صالح ، أو العرش ، وغير ذلك . على خلاف وتفصيل بين الفقهاء كما سيتّضح .
وأطلقت الوسيلة في الحديث على منزلة في الجنّة . قال النّبيّ عليه الصلاة والسلام :
« سلوا اللّه لي الوسيلة فإنّها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد اللّه وأرجو أن أكون أنا هو » .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستعانة :
2 - الاستعانة لغة طلب العون ، وفي الاصطلاح كذلك . وتكون الاستعانة باللّه وبغيره ، أمّا الاستعانة باللّه فهي مطلوبة في كلّ خير ، وأمّا الاستعانة بغير اللّه ففيها تفصيل يرجع إليه في مصطلح ( استعانة ) . والتّوسّل والاستعانة لفظان متساويان لغة واصطلاحاً .
ب - الاستغاثة :
3 - الاستغاثة طلب الغوث والنّصر ، وفي الاصطلاح كذلك .
والاستغاثة غير التّوسّل ، لأنّ الاستغاثة لا تكون إلّا في حال الشّدّة ، والتّوسّل يكون في حال الشّدّة وحال الرّخاء قال ابن تيميّة : ولم يقل أحد إنّ التّوسّل بنبيّ هو استغاثة به ، بل العامّة الّذين يتوسّلون في أدعيتهم بأمور ، كقول أحدهم : أتوسّل إليك بحقّ الشّيخ فلان أو بحرمته ، أو أتوسّل إليك باللّوح والقلم أو بالكعبة ، أو غير ذلك ممّا يقولونه في أدعيتهم يعلمون أنّهم لا يستغيثون بهذه الأمور ، فإنّ المستغيث بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم طالب منه وسائل له . والمتوسّل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يسأل ، وإنّما يطلب به ، وكلّ أحد يفرّق بين المدعوّ والمدعوّ به .
الحكم التّكليفيّ للتّوسّل :
4 - لقد أمر اللّه سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالتّوسّل إليه بالأعمال الصّالحة مع التّقوى المكلّلة بالإيمان الصّادق فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إليه الوَسيلةَ } .
قال ابن تيميّة وهذا التّوسّل بالإيمان به وطاعته فرض على كلّ أحد في كلّ حال ، باطنا وظاهرا ، في حياة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبعد موته ، في مشهده ومغيبه ، لا يسقط التّوسّل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق في حال من الأحوال بعد قيام الحجّة عليه ، ولا بعذر من الأعذار ، ولا طريق إلى كرامة اللّه ورحمته والنّجاة من عذابه إلّا التّوسّل بالإيمان به وبطاعته .
وقد مدح اللّه المتوسّلين إليه بما يرضيه سبحانه بقوله : { أولئكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهم الوَسِيلةَ أيُّهمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَه وَيَخَافُونَ عَذَابَه إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورَاً } . وهناك صور أخرى للتّوسّل منها : ما هو جائز ، ومنها ما هو غير جائز ، على خلاف وتفصيل بين الفقهاء يأتي بيانه .
أوّلاً : التّوسّل بأسماء اللّه تعالى وصفاته :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ التّوسّل إلى اللّه تعالى بأسمائه وصفاته مستحبّ لأيّ شأن من أمور الدّنيا والآخرة . قال اللّه تعالى : { وللَّهِ الأسْمَاءُ الحُسْنى فَادْعُوه بها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في أَسْمَائِه سَيُجزَونَ مَا كَانُوا يَعْمَلون } .
وقد ورد في السّنّة المطهّرة أحاديث كثيرة يتوسّل فيها النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأسمائه تعالى وصفاته منها : حديث أنس بن مالك قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال : يا حيّ يا قيّوم برحمتك أستغيث » .
ومنها : قوله صلى الله عليه وسلم : « أسألك بكلّ اسم سمّيت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علّمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور بصري ، وجلاء حزني ، وذهاب همّي » .
ومنها : حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أنّه مرّ على قاصّ يقرأ ثمّ يسأل ، فاسترجع عمران بن حصين أي قال : " إنّا للّه وإنّا إليه راجعون " ثمّ قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من قرأ القرآن فليسأل اللّه به ، فإنّه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به النّاس » .
كراهة أن يسأل بوجه اللّه غير الجنّة :
6 - لمّا كانت أسماؤه تعالى عظيمة القدر وصفاته جليلة مقدّسة ناسب أن يسأل بها الشّيء العظيم كالجنّة والمغفرة والطّاعة وغير ذلك ، لكن خصّ الوجه بسؤال الجنّة به ، ولا يسأل به غير ذلك ، لأنّ الجنّة أعظم ما يسأل المسلم من ربّه ، إذ هي دار رحمته ، ومستقرّ رضاه وأمنه . عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا يسأل بوجه اللّه إلا الجنّة » .
ثانياً : التّوسّل بالإيمان والأعمال الصّالحة :
7 - أجمع الفقهاء على جواز التّوسّل إلى اللّه تعالى بالأعمال الصّالحة الّتي يعملها الإنسان متقرّبا بها إلى اللّه تعالى . وقد ذهب المفسّرون إلى أنّ الوسيلة المذكورة في القرآن الكريم في قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغوا إليه الوَسِيلةَ } وفي قوله تعالى :
{ أولئكَ الَّذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهم الوَسيلةَ } تطلق على الأعمال الصّالحة .
وقال اللّه تعالى : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعين اهْدِنا الصِّرَاطَ المُسْتَقيم } فقد قدّم ذكر الأعمال الصّالحة ثمّ تلا ذلك بالدّعاء . وقال اللّه تعالى : { الَّذينَ يَقُولونَ رَبَّنَا إنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لنَا ذُنوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } ، وقال اللّه تعالى : { فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهم الكُفْرَ قَالَ مَنْ أنْصَاري إلى اللَّهِ قاَلَ الحَوارِيُّونَ نَحنُ أنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَأشْهَدْ بأنَّا مُسْلِمون . رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلتَ وَاتَّبَعنَا الرَّسُولَ فَاكتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدين } . وغير ذلك من الآيات الكريمة .
وأمّا السّنّة فمنها حديث عبد اللّه بن بريدة عن أبيه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : اللّهمّ إنّي أسألك أنّي أشهد أنّك أنت اللّه لا إله إلا أنت الأحد الصّمد الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، فقال : لقد سألت اللّه بالاسم الّذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب » .
ومنها حديث الغار المرويّ ، عن عبد اللّه بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « انطلق ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم حتّى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه ، فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار ، فقالوا : إنّه لا ينجّيكم من هذه الصّخرة إلا أن تدعوا اللّه بصالح أعمالكم . قال رجل منهم : اللّهمّ كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا . فنأى بي طلب الشّجر يوما فلم أرح عليهما حتّى ناما ، فحلبت لهما غبوقهما ، فوجدتهما نائمين ، فكرهت أن أوقظهما ، وأن أغبق قبلهما أهلا أو مالا ، فلبثت - والقدح على يديّ - أنتظر استيقاظهما حتّى برق الفجر والصّبية يتضاغون عند قدمي ، فاستيقظا فشربا غبوقهما . اللّهمّ إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه من هذه الصّخرة ، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه قال الآخر : اللّهمّ إنّه كانت لي ابنة عمّ كانت أحبّ النّاس إليّ » ، وفي رواية : « كنت أحبّها كأشدّ ما يحبّ الرّجال النّساء فأردتها على نفسها فامتنعت منّي حتّى ألمّت بها سنة من السّنين ، فجاءتني ، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلّي بيني وبين نفسها ففعلت ، حتّى إذا قدرت عليها » ، وفي رواية : « فلمّا قعدت بين رجليها قالت : اتّق اللّه ولا تفضّ الخاتم إلّا بحقّه ، فانصرفت عنها وهي أحبّ النّاس إليّ ، وتركت الذّهب الّذي أعطيتها اللّهمّ إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنّا ما نحن فيه ، فانفرجت الصّخرة غير أنّهم لا يستطيعون الخروج منها .
وقال الثّالث : اللّهمّ استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الّذي له وذهب ، فثمّرت أجره حتّى كثرت منه الأموال ، فجاءني بعد حين ، فقال : يا عبد اللّه أدّ إليّ أجري ، فقلت : كلّ ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرّقيق . فقال : يا عبد اللّه لا تستهزئ بي ، فقلت : لا أستهزئ بك ، فأخذه كلّه فاستاقه فلم يترك منه شيئا . اللّهمّ إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنّا ما نحن فيه . فانفرجت الصّخرة فخرجوا يمشون ».
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا قام يتهجّد قال : اللّهمّ ربّنا لك الحمد أنت قيّم السّموات والأرض ومن فيهنّ ، ولك الحمد أنت الحقّ ووعدك الحقّ ، ولقاؤك حقّ ، وقولك حقّ ، والجنّة حقّ ، والنّار حقّ ، والنّبيّون حقّ ، ومحمّد حقّ ، والسّاعة حقّ ، اللّهمّ لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكّلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدّمت وما أخّرت وما أسررت وما أعلنت » . وعن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « ما خرج رجل من بيته إلى الصّلاة فقال : اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السّائلين عليك وبحقّ ممشاي . . فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً . . . » الحديث .
ثالثاً : التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم :
لا خلاف بين العلماء في جواز التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في الأحوال التّالية :
أوّلاً - التّوسّل بالنّبيّ بمعنى طلب الدّعاء منّا في الدّنيا والشّفاعة في الآخرة .
أ - طلب الدّعاء من النّبيّ في الحياة الدّنيا :
8 - إنّ التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم بمعنى طلب الدّعاء منه في حياته قد ثبت بالتّواتر ، فقد كان الصّحابة الكرام رضي الله عنهم يسألون النّبيّ الدّعاء في الأمور الدّنيويّة والأخرويّة . وقد أرشدهم القرآن الكريم إلى ذلك قال اللّه تعالى : { وَلو أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفسَهم جَاءوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهم الرَّسُولَ لَوجَدُوا اللَّهَ تَوَّابَاً رَحِيمَاً } .
وفي كتب السّنّة من ذلك الشّيء الكثير ، فعن عثمان بن حنيف « أنّ رجلاً ضرير البصر أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : ادع اللّه أن يعافيني . قال : إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك ، قال : فادعه . قال : فأمره أن يتوضّأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدّعاء : اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرّحمة . يا محمّد إنّي توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي هذه لتقضى . . . إلى قوله : اللّهمّ فشفّعه في فقام وقد أبصر » .
وزاد حمّاد بن سلمة « وإن كانت لك حاجة فافعل مثل ذلك » .
ومنها « أنّ رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم قائم يخطب ، فقال : يا رسول اللّه هلكت الأموال وانقطعت السّبل فادع اللّه يغيثنا . فرفع رسول اللّه يديه ، ثمّ قال : اللّهمّ أغثنا . اللّهمّ أغثنا . اللّهمّ أغثنا . قال أنس : ولا واللّه ما نرى في السّماء من سحاب ولا قزعة ، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار ، فطلعت من ورائه سحابة مثل التّرس ، فلمّا توسّطت السّماء انتشرت ثمّ أمطرت ، فلا واللّه ما رأينا الشّمس سبتا ، ثمّ دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال : يا رسول اللّه هلكت الأموال وانقطعت السّبل فادع اللّه يمسكها عنّا فرفع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يديه ثمّ قال : اللّهمّ حوالينا ولا علينا . اللّهمّ على الآكام والظّراب وبطون الأودية ومنابت الشّجر . فأقلعت وخرجنا نمشي في الشّمس » .
ب - طلب الدّعاء من النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم القيامة :
9 - اتّفق العلماء على أنّ التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بسؤال الخلق له أن يشفع لهم عند ربّهم في المحشر واقع لا محالة خلافا للمعتزلة .
والشّفاعة العظمى يومئذ خصوصيّة منحها اللّه تعالى لحبيبه في عرصات القيامة تكريما وتشريفا له عليه الصلاة والسلام . عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « يجمع اللّه تبارك وتعالى النّاس يوم القيامة ، فيقوم المؤمنون حتّى تزلف لهم الجنّة . فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا استفتح لنا الجنّة فيقول : وهل أخرجكم من الجنّة إلّا خطيئة أبيكم آدم ؟ لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل اللّه . قال : فيقول إبراهيم عليه السلام : لست بصاحب ذلك إنّما كنت خليلا من وراء وراء . اعمدوا إلى موسى عليه السلام الّذي كلّمه اللّه تكليما ، فيأتون موسى فيقول : لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى عيسى كلمة اللّه وروحه ، فيقول عيسى عليه السلام : لست بصاحب ذلك ، فيأتون محمّدا صلى الله عليه وسلم فيقوم فيؤذن له ، وترسل الأمانة والرّحم فتقومان جنبتي الصّراط يمينا وشمالا فيمرّ أوّلكم كالبرق . . . » الحديث .
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا كان يوم القيامة ماج النّاس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له : اشفع لذرّيّتك فيقول : لست لها . . فيؤتى عيسى فيقول : لست لها ولكن عليكم بمحمّد صلى الله عليه وسلم فأوتي ، فأقول : أنا لها ، فأنطلق ، فأستأذن على ربّي ، فيؤذن لي ، فأقوم بين يديه ، فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يلهمنيه اللّه ثمّ أخرّ له ساجدا ، فيقال لي : يا محمّد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفّع ، فأقول : يا ربّ أمّتي أمّتي . . . » الحديث.
ج - التّوسّل بالنّبيّ على معنى الإيمان به ومحبّته :
10 - لا خلاف بين العلماء في التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم على معنى الإيمان به ومحبّته ، وذلك كأن يقول : أسألك بنبيّك محمّد ويريد : إنّي أسألك بإيماني به وبمحبّته ، وأتوسّل إليك بإيماني به ومحبّته ، ونحو ذلك . قال ابن تيميّة : من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع ، وإذا حمل على هذا المعنى كلام من توسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد مماته من السّلف - كما نقل عن بعض الصّحابة والتّابعين وعن الإمام أحمد وغيره - كان هذا حسنا . وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع ، ولكنّ كثيرا من العوّام يطلقون هذا اللّفظ ولا يريدون هذا المعنى ، فهؤلاء الّذين أنكر عليهم من أنكر .
وهذا كما أنّ الصّحابة كانوا يريدون بالتّوسّل به التّوسّل بدعائه وشفاعته ، وهذا جائز بلا نزاع ، ثمّ إنّ أكثر النّاس في زماننا لا يريدون هذا المعنى بهذا اللّفظ .
وقال الألوسيّ : أنا لا أرى بأسا في التّوسّل إلى اللّه تعالى بجاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم عند اللّه تعالى حيّا وميّتا ، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى ، مثل أن يراد به المحبّة التّامّة المستدعية عدم ردّه وقبول شفاعته ، فيكون معنى قول القائل : إلهي أتوسّل بجاه نبيّك صلى الله عليه وسلم أن تقضي لي حاجتي . إلهي اجعل محبّتك له وسيلة في قضاء حاجتي ، ولا فرق بين هذا وقولك : إلهي أتوسّل برحمتك أن تفعل كذا ، إذ معناه أيضا إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا ، والكلام في الحرمة أي المنزلة - والمراد حرمة النّبيّ - كالكلام في الجاه .
د - التّوسّل بالنّبيّ بعد وفاته :
اختلف العلماء في مشروعيّة التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كقول القائل : اللّهمّ إنّي أسألك بنبيّك أو بجاه نبيّك أو بحقّ نبيّك ، على أقوال :
القول الأوّل :
11 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة ومتأخّرو الحنفيّة وهو المذهب عند الحنابلة - إلى جواز هذا النّوع من التّوسّل سواء في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته . قال القسطلانيّ : وقد روي أنّ مالكا لمّا سأله أبو جعفر المنصور العبّاسيّ - ثاني خلفاء بني العبّاس - يا أبا عبد اللّه أأستقبل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأدعو أم أستقبل القبلة وأدعو ؟ فقال له مالك : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به فيشفّعه اللّه .
وقد روى هذه القصّة أبو الحسن عليّ بن فهر في كتابه " فضائل مالك " بإسناد لا بأس به وأخرجها القاضي عياض في الشّفاء من طريقه عن شيوخ عدّة من ثقات مشايخه .
وقال النّوويّ في بيان آداب زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم : ثمّ يرجع الزّائر إلى موقف قبالة وجه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيتوسّل به ويستشفع به إلى ربّه ، ومن أحسن ما يقول ( الزّائر ) ما حكاه الماورديّ والقاضي أبو الطّيّب وسائر أصحابنا عن العتبيّ مستحسنين له قال : كنت جالسا عند قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فجاءه أعرابيّ فقال : السّلام عليك يا رسول اللّه . سمعت اللّه تعالى يقول : { وَلو أَنَّهُم إذْ ظَلَمُوا أنْفسَهم جَاءوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لهم الرَّسُولُ لَوَجدُوا اللَّهَ تَوَّابَاً رَحِيمَاً } وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعا بك إلى ربّي . ثمّ أنشأ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه وطاب من طيبهنّ القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم وقال العزّ بن عبد السّلام : ينبغي كون هذا مقصوراً على النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّه سيّد ولد آدم ، وأن لا يقسم على اللّه بغيره من الأنبياء والملائكة الأولياء ، لأنّهم ليسوا في درجته ، وأن يكون ممّا خصّ به تنبيهاً على علوّ رتبته .
وقال السّبكيّ : ويحسن التّوسّل والاستغاثة والتّشفّع بالنّبيّ إلى ربّه .
وفي إعانة الطّالبين : . . . وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربّي . ما تقدّم أقوال المالكيّة والشّافعيّة .
وأمّا الحنابلة فقد قال ابن قدامة في المغني بعد أن نقل قصّة العتبيّ مع الأعرابيّ : ويستحبّ لمن دخل المسجد أن يقدّم رجله اليمنى . . . إلى أن قال : ثمّ تأتي القبر فتقول . . . وقد أتيتك مستغفراً من ذنوبي مستشفعا بك إلى ربّي . . . " . ومثله في الشّرح الكبير .
وأمّا الحنفيّة فقد صرّح متأخّروهم أيضاً بجواز التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم .
قال الكمال بن الهمام في فتح القدير : ثمّ يقول في موقفه : السّلام عليك يا رسول اللّه . . . ويسأل اللّه تعالى حاجته متوسّلا إلى اللّه بحضرة نبيّه عليه الصلاة والسلام .
وقال صاحب الاختيار فيما يقال عند زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم . . . جئناك من بلاد شاسعة . . . والاستشفاع بك إلى ربّنا . . . ثمّ يقول : مستشفعين بنبيّك إليك .
ومثله في مراقي الفلاح والطّحاويّ على الدّرّ المختار والفتاوى الهنديّة .
ونصّ هؤلاء : عند زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم اللّهمّ . . . وقد جئناك سامعين قولك طائعين أمرك مستشفعين بنبيّك إليك . وقال الشّوكانيّ : ويتوسّل إلى اللّه بأنبيائه والصّالحين . وقد استدلّوا لما ذهبوا إليه بما يأتي :
أ - قوله تعالى : { وَابْتَغُوا إليه الوَسِيلةَ } .
ب - حديث الأعمى المتقدّم وفيه : « اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرّحمة » . فقد توجّه الأعمى في دعائه بالنّبيّ عليه الصلاة والسلام أي بذاته .
ج - « قوله صلى الله عليه وسلم في الدّعاء لفاطمة بنت أسد : اغفر لأمّي فاطمة بنت أسد ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك والأنبياء الّذين من قبلي فإنّك أرحم الرّاحمين » .
د - توسّل آدم بنبيّنا محمّد عليهما الصلاة والسلام : روى البيهقيّ في " دلائل النّبوّة " والحاكم وصحّحه عن عمر بن الخطّاب قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « لمّا اقترف آدم الخطيئة قال : يا ربّ أسألك بحقّ محمّد لما غفرت لي فقال اللّه تعالى : يا آدم كيف عرفت محمّدا ولم أخلقه ؟ قال : يا ربّ إنّك لمّا خلقتني رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه فعلمت أنّك لم تضف إلى اسمك إلا أحبّ الخلق إليك ، فقال اللّه تعالى : صدقت يا آدم ، إنّه لأحبّ الخلق إليّ ، وإذ سألتني بحقّه فقد غفرت لك ، ولولا محمّد ما خلقتك » .
هـ – حديث الرّجل الّذي كانت له حاجة عند عثمان بن عفّان رضي الله عنه : روى الطّبرانيّ والبيهقيّ « أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفّان رضي الله عنه في زمن خلافته ، فكان لا يلتفت ولا ينظر إليه في حاجته ، فشكا ذلك لعثمان بن حنيف ، فقال له : ائت الميضأة فتوضّأ ، ثمّ ائت المسجد فصلّ ، ثمّ قل : اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرّحمة يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّك فيقضي لي حاجتي ، وتذكر حاجتك ، فانطلق الرّجل فصنع ذلك ثمّ أتى باب عثمان بن عفّان رضي الله عنه ، فجاء البوّاب فأخذ بيده ، فأدخله على عثمان رضي الله عنه فأجلسه معه وقال له : اذكر حاجتك ، فذكر حاجته فقضاها له ، ثمّ قال : ما لك من حاجة فاذكرها ثمّ خرج من عنده فلقي ابن حنيف فقال له : جزاك اللّه خيرا ما كان ينظر لحاجتي حتّى كلّمته لي ، فقال ابن حنيف ، واللّه ما كلّمته ولكن « شهدت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره » .
إلى آخر حديث الأعمى المتقدّم .
قال المباركفوري : قال الشّيخ عبد الغنيّ في إنجاح الحاجة : ذكر شيخنا عابد السّنديّ في رسالته والحديث - حديث الأعمى - يدلّ على جواز التّوسّل والاستشفاع بذاته المكرّم في حياته ، وأمّا بعد مماته فقد روى الطّبرانيّ في الكبير عن عثمان بن حنيف أنّ رجلا كان يختلف إلى عثمان . . إلى آخر الحديث .
وقال الشّوكانيّ في تحفة الذّاكرين : وفي الحديث دليل على جواز التّوسّل برسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى اللّه عزّ وجلّ مع اعتقاد أنّ الفاعل هو اللّه سبحانه وتعالى وأنّه المعطي المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
القول الثّاني في التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته :
12 - جاء في التتارخانية معزيّا للمنتقى : روى أبو يوسف عن أبي حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو اللّه إلا به - أي بأسمائه وصفاته - والدّعاء المأذون فيه المأمور به ما استفيد من قوله تعالى : { وَللَّهِ الأسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوه بها } .
وعن أبي يوسف أنّه لا بأس به ، وبه أخذ أبو اللّيث للأثر .
وفي الدّرّ : والأحوط الامتناع لكونه خبر واحد فيما يخالف القطعيّ ، إذ المتشابه إنّما يثبت بالقطعيّ . أمّا التّوسّل بمثل قول القائل : بحقّ رسلك وأنبيائك وأوليائك ، أو بحقّ البيت فقد ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد إلى كراهته . قال الحصكفيّ : لأنّه لا حقّ للخلق على اللّه تعالى وإنّما يخصّ برحمته من يشاء من غير وجوب عليه .
قال ابن عابدين : قد يقال : إنّه لا حقّ لهم وجوبا على اللّه تعالى لكن اللّه سبحانه وتعالى جعل لهم حقّا من فضله ، أو يراد بالحقّ الحرمة والعظمة ، فيكون من باب الوسيلة ، وقد قال تعالى : { وَابْتَغُوا إليه الوَسِيلَةَ } وقد عدّ من آداب الدّعاء التّوسّل على ما في " الحصن ، وجاء في رواية « اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السّائلين عليك ، وبحقّ ممشاي إليك ، فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً » الحديث .
ويحتمل أن يراد بحقّهم علينا وجوب الإيمان بهم وتعظيمهم . وفي " اليعقوبيّة " : يحتمل أن يكون الحقّ مصدرا لا صفة مشبّهة ، فالمعنى بحقّيّة رسلك ، فليتأمّل . ا هـ . أي : المعنى بكونهم حقّا لا بكونهم مستحقّين . أقول ( أي ابن عابدين ) : لكن هذه كلّها احتمالات مخالفة لظاهر المتبادر من هذا اللّفظ ، ومجرّد إيهام اللّفظ ما لا يجوز كاف في المنع . . . فلذا واللّه أعلم أطلق أئمّتنا المنع ، على أنّ إرادة هذه المعاني مع هذا الإيهام فيها الإقسام بغير اللّه تعالى وهو مانع آخر ، تأمّل .
هذا ولم نعثر في كتب الحنفيّة على رأي لأبي حنيفة وصاحبيه في التّوسّل إلى اللّه تعالى بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في غير كلمة " بحقّ " وذلك كالتّوسّل بقوله : بنبيّك " ، أو " بجاه نبيّك " أو غير ذلك . إلا ما ورد عن أبي حنيفة - في رواية أبي يوسف - قوله : لا ينبغي لأحد أن يدعو اللّه إلا به " .
القول الثّالث في التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته :
13 - ذهب تقيّ الدّين بن تيميّة وبعض الحنابلة من المتأخّرين إلى أنّ التّوسّل بذات النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يجوز ، وأمّا التّوسّل بغير الذّات فقد قال ابن تيميّة : ولفظ التّوسّل قد يراد به ثلاثة أمور . أمران متّفق عليهما بين المسلمين :
أحدهما : هو أصل الإيمان والإسلام ، وهو التّوسّل بالإيمان به صلى الله عليه وسلم وبطاعته .
والثّاني : دعاؤه وشفاعته صلى الله عليه وسلم " أي في حال حياته " وهذا أيضا نافع يتوسّل به من دعا له وشفع فيه باتّفاق المسلمين .
ومن أنكر التّوسّل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتدّ يستتاب فإن تاب وإلّا قتل مرتدّاً . ولكن التّوسّل بالإيمان به وبطاعته هو أصل الدّين ، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام للخاصّة والعامّة ، فمن أنكر هذا المعنى فكفره ظاهر للخاصّة والعامّة .
وأمّا دعاؤه وشفاعته وانتفاع المسلمين بذلك فمن أنكره فهو كافر أيضا ، لكن هذا أخفى من الأوّل ، فمن أنكره عن جهل عرف ذلك ، فإن أصرّ على إنكاره فهو مرتدّ .
أمّا دعاؤه وشفاعته في الدّنيا فلم ينكره أحد من أهل القبلة ، وأمّا الشّفاعة يوم القيامة فمذهب أهل السّنّة والجماعة وهم الصّحابة والتّابعون لهم بإحسان وسائر أئمّة المسلمين الأربعة وغيرهم أنّ له شفاعات خاصّة وعامّة .
وأمّا التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم والتّوجّه به في كلام الصّحابة فيريدون به التّوسّل بدعائه وشفاعته . والتّوسّل به في عرف كثير من المتأخّرين يراد به الإقسام به والسّؤال به ، كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصّالحين ومن يعتقد فيه الصّلاح . وحينئذ فلفظ التّوسّل به يراد به معنيان صحيحان باتّفاق المسلمين ، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنّة .
ومن المعنى الجائز قول عمر بن الخطّاب : اللّهمّ إنّا كنّا إذا أجدبنا توسّلنا إليك بنبيّنا فتسقينا وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا " أي : بدعائه وشفاعته .
وقوله تعالى : { وَابْتَغُوا إليه الوَسِيلَةَ } أي : القربة إليه بطاعته ، وطاعة رسوله طاعته . قال تعالى : { مَنْ يُطع الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللَّهَ } فهذا التّوسّل الأوّل هو أصل الدّين ، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين . وأمّا التّوسّل بدعائه وشفاعته - كما قال عمر فإنّه توسّل بدعائه لا بذاته ، ولهذا عدلوا عن التّوسّل به ( أي بعد وفاته ) إلى التّوسّل بعمّه العبّاس ، ولو كان التّوسّل هو بذاته لكان هذا أولى من التّوسّل بالعبّاس ، فلمّا عدلوا عن التّوسّل به إلى التّوسّل بالعبّاس ، علم أنّ ما يفعل في حياته قد تعذّر بموته .
بخلاف التّوسّل الّذي هو الإيمان به ، والطّاعة له ، فإنّه مشروع دائماً .
والمعنى الثّالث : التّوسّل به بمعنى الإقسام على اللّه بذاته ، والسّؤال بذاته ، فهذا هو الّذي لم يكن الصّحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ، لا في حياته ولا بعد مماته ، لا عند قبره ولا غير قبره ، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم ، وإنّما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة ، أو عمّن ليس قوله حجّة .
ثمّ يقول ابن تيميّة : والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب الشّافعيّ وأحمد ، وقد حكي إجماع الصّحابة على ذلك . وقيل : هو مكروه كراهة تنزيه . والأوّل أصحّ . فالإقسام بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم على اللّه - والسّؤال به بمعنى الإقسام - هو من هذا الجنس .
ويذهب ابن تيميّة إلى أنّ التّوسّل بلفظ " أسألك بنبيّك محمّد " يجوز إذا كان على تقدير مضاف ، فيقول في ذلك : فإن قيل : إذا كان التّوسّل بالإيمان به ومحبّته وطاعته على وجهين : تارة يتوسّل بذلك إلى ثواب اللّه وجنّته - وهذا أعظم الوسائل - وتارة يتوسّل بذلك في الدّعاء - كما ذكرتم نظائره - فيحمل قول القائل : أسألك بنبيّك محمّد على أنّه أراد : إنّي أسألك بإيماني به وبمحبّته ، وأتوسّل إليك بإيماني به ومحبّته ونحو ذلك ، وقد ذكرتم أنّ هذا جائز بلا نزاع . قيل : من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع ، وإذا حمل على هذا المعنى لكلام من توسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد مماته من السّلف ، كما نقل عن بعض الصّحابة والتّابعين ، وعن الإمام أحمد وغيره ، كان هذا حسنا ، وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع ، ولكن كثير من العوّام يطلقون هذا اللّفظ ، ولا يريدون هذا المعنى ، فهؤلاء الّذين أنكر عليهم من أنكر ، وهذا كما أنّ الصّحابة كانوا يريدون بالتّوسّل به التّوسّل بدعائه وشفاعته وهذا جائز بلا نزاع .
ثمّ يقول : والّذي قاله أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء - من أنّه لا يجوز أن يسأل اللّه تعالى بمخلوق لا بحقّ الأنبياء ولا غير ذلك - يتضمّن شيئين كما تقدّم :
أحدهما : الإقسام على اللّه سبحانه وتعالى به ، وهذا منهيّ عنه عند جماهير العلماء كما تقدّم ، كما ينهى أن يقسم على اللّه بالكعبة والمشاعر باتّفاق الفقهاء .
والثّاني : السّؤال به فهذا يجوّزه طائفة من النّاس ، ونقل في ذلك آثار عن بعض السّلف ، وهو موجود في دعاء كثير من النّاس ، لكن ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك كلّه ضعيف بل موضوع ، وليس عنه حديث ثابت قد يظنّ أنّ لهم فيه حجّة إلّا حديث الأعمى الّذي علّمه أن يقول : « أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرّحمة » وحديث الأعمى لا حجّة لهم فيه ، فإنّه صريح في أنّه إنّما توسّل بدعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم وشفاعته ، وهو طلب من النّبيّ صلى الله عليه وسلم الدّعاء ، وقد أمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول : اللّهمّ شفّعه في " ولهذا ردّ اللّه عليه بصره لمّا دعا له النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكان ذلك يعدّ من آيات النّبيّ صلى الله عليه وسلم . ولو توسّل غيره من العميان الّذين لم يدع لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالسّؤال به لم تكن حالهم كحاله . وساغ النّزاع في السّؤال بالأنبياء والصّالحين دون الإقسام بهم ، لأنّ بين السّؤال والإقسام فرقا ، فإنّ السّائل متضرّع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة ، والمقسم أعلى من هذا ، فإنّه طالب مؤكّد طلبه بالقسم ، والمقسم لا يقسم إلّا على من يرى أنّه يبرّ قسمه ، فإبرار القسم خاصّ ببعض العباد ، وأمّا إجابة السّائلين فعامّ ، فإنّ اللّه يجيب دعوة المضطرّ ودعوة المظلوم ، وإن كان كافرا ، وفي الصّحيح عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال :
« ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه اللّه بها إحدى ثلاث : إمّا أن تعجّل له دعوته ، وإمّا أن يدّخرها له في الآخرة مثلها ، وإمّا أن يصرف عنه من السّوء مثلها قالوا : إذا نكثر ، قال : اللّه أكثر » .
وهذا التّوسّل بالأنبياء بمعنى السّؤال بهم - وهو الّذي قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم أنّه لا يجوز - ليس في المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك ، فمن نقل عن مذهب مالك أنّه جوّز التّوسّل به بمعنى الإقسام أو السّؤال به فليس معه في ذلك نقل عن مالك وأصحابه . ثمّ يقول : ولم يقل أحد من أهل العلم : إنّه يسأل اللّه تعالى في ذلك لا بنبيّ ولا بغير نبيّ . وكذلك من نقل عن مالك أنّه جوّز سؤال الرّسول أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمّة المسلمين - غير مالك - كالشّافعيّ وأحمد وغيرهما فقد كذب عليهم .
ثمّ يقرّر ابن تيميّة أنّ هذه المسألة خلافيّة وأنّ التّكفير فيها حرام وإثم .
ويقول بعد ذكر الخلاف في المسألة : ولم يقل أحد : إنّ من قال بالقول الأوّل فقد كفر ، ولا وجه لتكفيره ، فإنّ هذه مسألة خفيّة ليست أدلّتها جليّة ظاهرة ، والكفر إنّما يكون بإنكار ما علم من الدّين بالضّرورة ، أو بإنكار الأحكام المتواترة والمجمع عليها ونحو ذلك .
بل المكفّر بمثل هذه الأمور يستحقّ من غليظ العقوبة والتّعزير ما يستحقّه أمثاله من المفترين على الدّين ، لا سيّما مع قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أيّما رجل قال لأخيه : يا كافر فقد باء به أحدهما » .
رابعاً : التّوسّل بالصّالحين من غير النّبيّ :
14 - لا يخرج حكم التّوسّل بالصّالحين من غير النّبيّ عمّا سبق من الخلاف في التّوسّل به صلى الله عليه وسلم .
انظر الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد 14 مادة توسل

0 komentar: